قاعدة جليلة للتفريق بين البدعة والمصلحة المرسلة من كلام شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
قاعدة جليلة للتفريق بين البدعة والمصلحة المرسلة من كلام شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - .
A-
A=
A+
الشيخ : وبهذه المناسبة أرى أن أذكر لكم قاعدة استفدتها من كلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " ، يذكر هناك كلامًا هامًّا جدًّا فيه التفريق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة ، يقول : " كل محدث يحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بد من أن يدور عليه ما يأتي ، إما أن يكون هذا المحدث كان المقتضي لإحداثه والأخذ به قائمًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإما أن لا يكون هذا المقتضي قائمًا في عهده ، فإذا كان المقتضي قائمًا في عهده - عليه السلام - ولم يفعله ؛ فمثل ما ذكرنا آنفًا من الأذان لغير الصلوات الخمس يقول : هنا ... بهذه المحدثة هو ابتداع في الدين ، ويجري عليها تلك الأحاديث الهامة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو رد ) ونحوه ، أما إذا كان هذا المحدث المقتضي لم يكن قائمًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإنما وُجد فيما بعد ، قال نظرنا إذا كان هذا المقتضي الحادث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان السبب هو تقصير المسلمين في القيام بأحكام الدين ، فمع وجود هذا المقتضي للأخذ بذلك المحدث ؛ لا يجوز الأخذ به ، لأن المقتضي للأخذ به نشأ بسبب المسلمين من تقصيرهم لتطبيق أحكام الدين ، وهذا مثاله هذه الضرائب الكثيرة أن الأمر المُحدث إذا كان المقتضي للأخذ به كان سبب وجود هذا المقتضي هو تقصير المسلمين في تطبيق أحكام الدين ؛ فحين ذاك لا يجوز اعتبار هذا المقتضي مبرِّرًا للأخذ بما اقتضاه من المحدثة ، مثال ذلك مثالًا واضحًا بيِّنًا ؛ هذه الضرائب التي غرق الشعب المسلم أو الأمة المسلمة فيها ، حينما تبنَّتها بعض الدول وجعلتها كالأمور المالية المفروضة في أصل الشريعة الإسلامية ، هذه الضرائب المُقتضي لتشريعها هو تعطيل بعض الأحكام الشرعية ، وهو الزكاة ونحوها مما هو مورد الخزينة خزينة الدولة ، فلما أعرضوا عن تطبيق الشرع في هذه الناحية - أيضًا - نتج من ذلك خرابٌ في الخزينة ، فوُجد المقتضي لفرض الضرائب لاستدراك ما نتج بسبب إهمال فريضة الزكاة ونحوها من الموارد ، فلا يجوز الأخذ بهذه الضرائب ؛ لأن المقتضي لفرضها إنما نتجَ بسبب إهمالنا - نحن المسلمين - لأحكام الزكاة وأحكام موارد الأموال الشرعية " . هذا مثال واضح لهذا الذي ذكره ابن تيمية - رحمه الله - .

أما النوع الثالث من المقتضي ، إذا كان المقتضي ليس الدافع إلى وجوده ناتجًا من تقصير المسلمين لبعض أحكام الدين ؛ فحينئذٍ يجوز الأخذ بما يستلزمه هذا المقتضي من إحداث شيء ما ، هنا يأتي بحث " المصلحة المرسلة " ، وهذا البحث أجاد فيه الكلام الإمام الشاطبي في كتابه " الاعتصام " ، وهو يفرِّق بين المصلحة المرسلة وبين البدعة الضلالة ، والتي قد يرى بعضهم أنها تكون حسنةً ، يفرِّق بتفريق آخر فيقول : المصلحة لا تكون من باب زيادة التعبد في الدين ، بخلاف البدعة التي يسمونها بالبدعة الحسنة ؛ فهي مُضاهاة للعبادة التي جاءت في الشريعة ، والتي يزداد العبد بها تقرُّبًا إلى الله ، فهو يريد زيادة من العبادة بطريق البدعة الحسنة ، أما المصلحة المرسلة ؛ فليست كذلك ، وإنما هي تُحقق مصلحة للمسلمين ليس لها علاقة بزيادة ... في الدين ، مثلًا مَن يسافر على السيارة ، فهو يأخذ بهذه المصلحة التي وُجدت اليوم بأن يسافر بالطائرة لأداء فريضة الحج ، فهو لا يقصد حينما يركب الطائرة أن يتقرَّب بهذا الركوب في الطائرة إلى الله بهذا الركوب ، لكنه يتخذ ذلك وسيلة لأداء ما فرض الله عليه من الحج إلى بيته ، هذا مثال مبسط جدًّا للمصلحة المرسلة .

لكن هذه قد تنقلب في صورة أخرى إلى بدعة في الدين ، لو أن رجلًا ميسورًا قويَّ البنية ، يستطيع أن يسافر بالطائرة ، يستطيع أن يسافر بالسيارة إلى بيت الله الحرام ، لكنه يقول أنا أريد أن أحج إلى بيت الله الحرام مشيًا على الأقدام ، لم ؟ يقول : هذا أفضل ، حينئذٍ انقلب الأمر من الأخذ بالوسيلة التي حدثت ، وهي تحقق مصلحة شرعية مفروضة ، إلى بدعة في الدين ، حينما قال بأن الحج إلى بيت الله الحرام على الأقدام أفضل من الحج بوسيلة أخرى من الركوب ، سواء على الناقة ، أو على السيارة ، أو على الطائرة ، أحدث في هذا حكمًا في الإسلام ؛ فهو بدعة سيئة ، أما من لا يستطيع أن يركب شيئًا من هذه المركوبات التي أشرنا إليها ، ويستطيع أن يحج إلى بيت الله الحرام مشيًا على الأقدام ، فهذا واجب عليه ؛ لأنه دخل في عموم قوله - تعالى - : (( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا )) ، أما إنسان تيسَّرت له وسيلة من وسائل الركوب فيُؤثر عليها أن يحجَّ على الأقدام ، بزعم أن هذا الحج أفضل ، نقول : كلَّا ، لقد كان سيد البشر - عليه الصلاة والسلام - أقوى الرجال ، وكان باستطاعته أن يحج من المدينة إلى بيت الله الحرام على الأقدام ، وكذلك سائر أصحابه الكرام ، لكنهم لم يفعلوا شيئًا من ذلك ، وإنما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته كما هو معلوم ، فمن ذا الذي يستطيع أن يدعي بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن عنده تلك الرغبة الجامحة في التقرب إلى الله بما شرع ، فترك الحج على الأقدام وهو مستطيع ؟! وهو في زعم هذا المُحدث الحج على الأقدام أفضل ، هنا تصبح هذه القضية بدعة ؛ لأنه اقترن فيها قصد العبادة بأمر لم يشرعه الله - تبارك وتعالى - على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أو على بيانه الذي يشمل الفعل - أيضًا - ، بخلاف إذا ركبنا اليوم الطائرة ، الطائرة بلا شك مُحدثة ، لكن هي تدخل في المصالح المرسلة ؛ لأنها تُسهِّل على الناس الحج إلى بيت الله الحرام .

هذا التفصيل أردتُ أن أقدِّمه إليكم ، لأنه يساعدكم مساعدة كبيرة جدًّا في التفريق بين محدثات الأمور وبين المصالح المرسلة التي يجوز الأخذ بها .

تفضل .

مواضيع متعلقة