ذكر شروط الأخذ بالمصالح المرسلة ، وضرب الأمثلة على ذلك من الواقع . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ذكر شروط الأخذ بالمصالح المرسلة ، وضرب الأمثلة على ذلك من الواقع .
A-
A=
A+
الشيخ : لكن مع ذلك هذه الوسائل التي حدثَتْ فيما بعد لا يجوز اتِّخاذها ولا إدخالها في باب المصالح المرسلة إلا بشرطين اثنين : أوَّلًا : أن لا تكون هذه الوسيلة كانت ممكنة الأخذ بها في عهد الرسول ومع ذلك فالرسول - عليه السلام - ما أخَذَ بها ولا تبنَّاها ، مثاله : اليوم فيه ضرائب في كلِّ الدول الإسلامية مع الأسف تُفرض على الشعوب المسلمة بحكم أنُّو مصلحة الدولة تقتضي فرض هذه الضرائب التي تسمَّى بلغة الشرع بالمكوس ، ومنها الجمارك ؛ يُقال : هذه الوسيلة حدثَتْ بعد الرسول - عليه السلام - ولا يبرِّر التمسُّك بها أن المقصود بها تحقيق هدف لصالح الأمة ؛ لأننا نقول : هذه الوسيلة كان من الممكن أن يأخذ الرسول - صلوات الله وسلامه - بها يوم كانت الشريعة تنزل عليه تترى ، ومع ذلك اكتفى بفرض الزكاة لإملاء بيت مال المسلمين ، واكتفى بأسباب منها المغانم التي يغنَمُها المسلمون بحروبهم للكفار ، وغير ذلك من الوسائل التي تُفصَّل في كتب الحديث وكتب الفقه .

فاتِّخاذ وسيلة اليوم لنفس تحقيق الغرض وهو مصالح الدولة ؛ وهو إملاء خزينتها بالمال ؛ ما دامت الوسيلة هَيْ كان من الممكن اتخاذها في عهد الرسول - عليه السلام - ولم يتَّخذها فيكون اتِّخاذها لنفس الغرض إحداثًا في الدين ، ومثال أقرب وأقرب من هذا بكثير ، ولعل كثيرًا من الحاضرين لم يسمعوا به ، كلنا يعلم أن الزكاة المفروضة كانت تُجمع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموظَّفين يُعرفون بالسُّعاة ، يُعرفون اليوم بالجُباة ، أما قديمًا كان يُسمَّى الذي يجبي الأموال الساعي ، وجمعه السُّعاة ، يطوفون على أصحابين البقر والمواشي وأصحابين الأراضي التمر والقمح والشعير ، فيجمعون كل شيء من هذه الأجناس في الموسم ويسوقونها إلى بيت مال المسلمين ، وفي نظام دقيق جدًّا مفصَّل كل التفصيل في كتب السنة وكتب الحديث .

لكن لعل الكثير من الحاضرين لا يعلمون أو لا يتنبَّهون أن هؤلاء السُّعاة ما كانوا يجمعون زكاة النقدين ، ما كانوا يجمعون من الأغنياء زكاة النقدين ، وما كانوا يفحصون خزائن الأغنياء ، هات لنشوف أنت إيش عندك مال ؟ في المئة اثنين ونصف يعمل حسابه يأخذ منه ؛ هذا لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ؛ بخلاف زكاة المواشي والزُّروع ، فكان لها موظَّفون مختصُّون في جمعها من الذين وجبَتِ الزكاة عليهم فيها ، أما زكاة النقدين زكاة الذهب والفضة فهذا قد وَكَلَ الشارع الحكيم أمرَها إلى المسلم الغني ، فهو الذي يُكلَّف بإخراج هذه الزكاة دون أن يكون عليه مُطالِب أو رقيب أو عتيد .

فلو أن دولة ما اليوم أرادَتْ أن تجمع زكاة أموال النقدين كما كانوا من قبل في عهد الرسول - عليه السلام - يجمعون زكاة المواشي والزورع بواسطة السُّعاة يكون هذا ابتداع في الدين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي شَرَعَ للمسلمين أن يُعطوا الزكاة للسُّعاة الموظفين الذين يذهبون إلى أصحابين تلك الأموال فيجمعونها منهم ؛ هذا الرسول - عليه السلام - الذي شَرَعَ لله - تبارك وتعالى - هذا الجمع بهذه الطريقة ما شرعَ لأولئك السُّعاة ولأولئك الجُباة أن يجمعوا زكاة النقدين . فالذي شرع ذلك ما شرع هذا ، فإذا جئنا نحن وشرعنا من عندنا وسيلة جديدة كان المقتضي لتشريعها في عهد الرسول - عليه السلام - ومع ذلك ما شرعه ؛ يكون هذا من الابتداع في الدين .

ومثال أخير ، وبذلك أظن يكفي لشرح موضوع المصالح المرسلة أنها كلُّ وسيلة تؤدِّي إلى تحقيق أمر شرعي ، لكن بشرط أنُّو تكون هذه الوسيلة حدثَتْ فيما بعد ولم يكن المقتضي للأخذ بمقتضاها في عهد الرسول - عليه السلام - ، فمَثَل أخير ذكرتُه بمناسبة قريبة ، لكن إتمامًا للفائدة أذكِّر بهذا السبب ؛ وهو الأذان لصلاة الاستسقاء أو لصلاة الكسوف ؛ هذا لا يُشرع ؛ لأن الرسول - عليه السلام - صلى صلاة الكسوف وما أذَّن ، كان المقتضي لجمع الناس بطريقة الأذان موجودة في عهد الرسول ومع ذلك ما شرعَ لهم هذه الوسيلة ؛ مع أنها مشروعة بالنسبة للصلوات الخمس ، وبالتالي أن لا يُشرع لها أيُّ وسيلة أخرى ، كما وقع لي كنتُ في الشارقة يوم خُسِفَ القمر ، يمكن خسف عندكم - أيضًا - هنا ؟

السائل : نعم .

الشيخ : ونحن غرباء عن تلك البلدة في نصف الليل تقريبًا نسمع ضوضاء وغوغاء حولنا ، وما نفهم لغتهم جيدًا ، بعد ذلك أحد عائلتي يلفت نظري ونحن كنا في الغرفة أنُّو القمر قد انخسفَ ، حينئذٍ تنبَّهنا لأن الأمر عبارة عن تكبير وتهليل من مختلف النواحي ، فقلنا في أنفسنا أن هذا طبعًا لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ، وإنما كان يجمع الناس لمثل هذه الصلاة بمثل قول المؤذِّن : " الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة " ؛ مع ذلك قلت : هذه الوسيلة التي رأيناها هناك في الإمارات خير من الوسيلة التي نعرفها في بلادنا السورية ، هناك تسمع ضجيجًا عجيبًا ، وهو الضرب على الأواني النحاسية ؛ الأواني التي يطبخون عليها يضربون عليها ضرب مزعج جدًّا ، فتسمع ضجيج في البلد كله ؛ هذه أثر من آثار التقاليد الخرافية المحضة ؛ لأنُّو من السائد عندنا هناك أنُّو الكسوف سببه قال الحوت يفغر فاهه فيحاول أن يبتلعَ القمر ؛ ولذلك فهم يخوِّفون هذا الحوت المزعوم بمثل ذلك الضَّرب الإيش ؟ المزعج .

فقلت أنا على كل حال : لا يُشرع لصلاة الكسوف الأذان الذي لا وسيلة أحسن منه ؛ لأنُّو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ؛ فإذًا المصلحة المرسلة هي كلُّ سبب يؤدِّي إلى تحقيق أمر شرعي منصوص عليه في الكتاب والسنة ، لكن هذا السبب لم يكن المقتضي للأخذ به قائمًا في عهد الرسول - عليه السلام - ، فإذا كان قائمًا والرسول لم يتبنَّه فحينئذٍ لا يجوز لنا أن نتبنَّاه .

مواضيع متعلقة