ما ضابط المصلحة المرسلة وما يشرع منها ؟ والفرق بينها وبين البدعة ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما ضابط المصلحة المرسلة وما يشرع منها ؟ والفرق بينها وبين البدعة ؟
A-
A=
A+
السائل : فضيلة الشيخ ، سمعنا منكم كلامًا حول المصلحة المرسلة ؛ وهو أن الأمر الذي يُشرع لكونه مصلحة يُشترط فيه أن يكون مُستثنى في الأصل ، نرجو بيان ذلك ، مع توضيح ضابط المصلحة التي تُبيح ما كان غير مشروع لكون بعض الأمور فيه مصلحة ، ولكنه لا يُشرع مثل استعمال الصور في المجلات لغاية تربوية أو غير ذلك ؟

الشيخ : أظن كمان عند صاحبنا شريط في هذا ولَّا ما عندك ؟

السائل : ... .

الشيخ : ما في ؟ كنا تحدَّثنا حول هذا بشيء من التفصيل . نعم ؟

سائل آخر : بمكة .

الشيخ : بمكة .

المصالح المرسلة يوجد خلاف بين العلماء ، وبعضهم يقول بها وبعضهم لا يقول بها ، ومن هذا البعض الذي يقول بها علماء المالكية وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ، وقد تكلَّم الإمام الشاطبي عن هذه المسألة في كتابه الجليل " الاعتصام " ، وأنا أقول بهذه المناسبة : أحضُّ طلاب العلم على اقتناء هذا الكتاب ؛ لأنه كتاب فذٌّ فرْدٌ لا مثل له في موضوعه ، وكل من ألَّف ممن جاء بعده في أصول البدع فإنما هو عالة عليه .

لقد عالج هذا البحثَ فيه لأنَّ له ارتباطًا وثيقًا بالبدعة من حيث أنه يلتقي مع البدعة في كون البدعة حادثة بعد أن لم تكن ، وكذلك المصلحة المرسلة هي تكون حادثة - أيضًا - بعد أن لم تكن ، وللتمييز بين ما هو بدعة ضلالة وبين ما هو مصلحة مرسلة تطرَّق لهذا البحث العظيم في ذلك الكتاب الجليل ، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - تطرَّق لهذا الموضوع الخطير في كتابه العظيم " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " .

وخلاصة كلامهما أن الوسيلة التي حدثت ويُراد الأخذ بها لتحقيق مصلحة للأمة هذه الوسيلة إما أن تكون كان المقتضي للأخذ بها قائمًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومع ذلك لم يأخذ بها ، وإن كانت تُحقِّق مصلحةً ظاهرةً للعيان ، ومن الأمثلة على ذلك إن الأذان إنما يُقصد به شرعًا الإعلام بدخول أوقات الصلوات الخمس ، ويشعر كلٌّ منَّا أن بعض الصلوات الأخرى التي لا تجب كلَّ يوم وليلة إنما تجب في السنة مرَّة أو مرتين ، أو تجب بمناسبة ما كصلاة العيدين مثلًا ، فنحن نشعر بأن صلاة العيدين أحوَجُ إلى الأذان لإعلام الناس بوقتهما من الصلوات الخمس ؛ لأن المسلمين بسبب اعتيادهم للصلوات الخمس وتعرُّفهم على أوقاتها بسبب التمرُّن قد لا يحتاجون احتياجةً كبرى إلى الأذان ، وعلى العكس من ذلك الأذان للعيدين ؛ فهذه وسيلة كان المقتضي للأخذ بها في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لإعلام الناس بدخول وقت صلاة العيد ، وإذ لم يأخذ - عليه الصلاة والسلام - بهذه الوسيلة لتحقيق تلك المصلحة ؛ ما هي المصلحة ؟ الإعلام ، فلا يجوز لنا أن نتَّخذ مثل هذه الوسيلة لتحقيق مصلحة ؛ لأن هذه الوسيلة كانت قائمةً في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومع ذلك لم يسُنَّ هذه الوسيلة ؛ فإحداثها يُعتبر إحداثًا في الدين ، ويصدق عليه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) ، هذا إذا كانت الوسيلة قائمة مقتضاها في عهده - عليه الصلاة والسلام - ثم لم يأخذ بالمُقتضى لها كالأذان مع صلاة العيدين .

أما إذا وُجِد المقتضي لإحداث وسيلة لم يكن المقتضي لإحداثها في عهد الرسول - عليه السلام - ؛ فهنا لا بدَّ من التفصيل التالي ، هذا كله ليس من عندي ، إنما هذا من فضل علم الرجلين المذكورين آنفًا ؛ الإمام الشاطبي والإمام ابن تيمية الحرَّاني .

إذا كان الباعث على الأخذ بالوسيلة إنما هو الوسيلة التي تُحقِّق مصلحة ؛ إذا كان الباعث على الأخذ بتلك الوسيلة منشَؤُه هو إهمال المسلمين لبعض أحكام دينهم فلا يجوز في هذه الحالة التمسُّك بهذه الوسيلة ؛ لأنها إنما ظنُّوا أنها تُحقِّق مصلحة بسبب إعراضهم عن أمور شرعيَّة بها تتحقَّق تلك المصلحة ؛ فإيجاد هذه الوسيلة والأخذ بها لتحقيق المصلحة فيه صَرْفٌ عمليٌّ للمسلمين عن الأخذ بالأسباب الشرعية لتحقيق تلك المصلحة .

مثاله : أموال الزكاة ؛ فهي - كما نعلم جميعًا - أمور شرعية قد أُمِرنا بها ؛ يعني أُمِر بها الأغنياء ، ماهي ثمرة تطبيق هذا الأمر الواجب وهو الزكاة ؟ لا شك أن في ذلك إملاءً لخزينة الدولة تنفق هذه الأموال التي تجمعها على سنن معروفة تفصيلها في كتب الحديث والفقه لمعالجة وتحقيق مصالح المسلمين ، ومن ذلك - مثلًا - - أو من أهم هذه المصالح - أنه إذا غُزِيَت بعض البلاد الإسلامية من عدوٍّ لهم وجب للحاكم المسلم أن يُهيِّئ جيشًا لطرد العدو من بلاد المسلمين ، وهذا الجيش أو هذه التهيئة للجيش بلا شك يتطلَّب من النفقات الشيء الكثير والكثير جدًّا ؛ ولذلك كان من حكمة الحكيم العليم أن شَرَعَ للحُكَّام المسلمين أن يجمعوا أنواعًا من أموال الزكاة يُودعونها في بيت مال المسلمين لمعالجة مصالحهم ، ومنها إخراج العدو أو صدُّ العدو إذا ما هاجمَ بلاد المسلمين ، فإذا ما تقاعس الحُكَّام المسلمون عن القيام بواجب جمع أموال الزكاة ؛ حينئذٍ لا تستطيع هذه الدولة أن تقوم بمصالح الأمة المسلمة ؛ فماذا يفعلون حينذاك ؟ يفرضون ضرائب لتحقيق تلك المصالح ، فهل يؤخذ بهذه الوسيلة ؟ الجواب : لا ؛ لأن هناك وسائل مشروعة رضى رب العالمين لو تبنَّاها الحكام لحقَّق لهم المال الوفير ، ولَامتلأت خزائن الدولة بأموال الزكاة ، فلما قصَّروا في تطبيق شريعة الزكاة اضطرُّوا إلى بديلها ، وهذا البديل هو فرض الضرائب ؛ فلا يجوز إذًا تبنِّي مثل هذه الوسيلة ولو كانت تُحقِّق مصلحة للأمة ؛ لأن هذه الوسيلة سبب الأخذ بها تقصير المسلمين في تطبيق الوسائل الشرعية التي تجمع المال في بيت مال المسلمين ، ثم يختلف الأمر فيما إذا كانت الحكومة الإسلامية تقوم بواجب جمع الزَّكوات في كل عام ، ولكن لمَّا افترضنا أن عدوًّا ما هاجمَ طرفًا من بلاد المسلمين ؛ نظر المسلمون الموظَّفون على خزينة الدولة فوجدوا المال المجموع بالطرق المشروعة التي أشرنا إليها آنفًا فوجدوا أن هذه الأموال الموجودة في خزينة الدولة لا تكفي لصدِّ غائلة العدوِّ ؛ فهنا يجوز للحاكم المسلم أن يفرض ضرائب موقَّتة زمنيَّة ليجمع الأموال التي تكفي لصدِّ العدو المُهاجم لبعض بلاد الإسلام .

في هذه الصورة تختلف تمامًا أن هذه الوسيلة واجبة ؛ لأنها تُحقّق مصلحة زمنية طارئة ، لكن هذه الوسيلة لم تنتج من تقصير المسلمين في تطبيقهم للوسائل المشروعة ؛ وإنما نتجت لأنَّ المقتضي الذي طرأ - وهو مهاجمة العدو الكثير عدده والكثير سلاحه - يستوجب مالًا أكثر من الموجود في الخزينة ؛ فإذًا هذه المصلحة لا بد من إحداث وسيلة لم تكن من قبل ، فإذا تحقَّقت المصلحة انتفت هذه الوسيلة ، وبقي الحاكم المسلم يجمع الأموال على الطريقة الإسلامية ، وإذا كانت الوسيلة إذًا تارة وهي مُحدثة يكون الباعث عليها تقصير المسلمين فهي غير مشروعة ، وتارةً لا يكون الباعث عليها تقصيرهم فتكون مشروعة ؛ خرجنا بثلاثة أنواع من هذا الكلام ، من الوسائل بعضها يُشرع وبعضها لا يُشرع ، الوسيلة التي لا تشرع هي التي وُجِد المقتضي للأخذ بها في عهد الرسول - عليه السلام - ثم لم يأخذ بها فهي غير جائزة وغير مشروعة ، وتُلحق بالبدعة الضلالة ، ويُلحق بها - أيضًا - الوسيلة التي تُحقِّق مصلحة لكن السبب الحامل عليها هو تقصير المسلمين بتطبيق أحكام الدين ؛ فهذه - أيضًا - تُلحق بالوسيلة الأولى ؛ فلا تُشرع ، وتكون من المحدَثات في الدين .

والوسيلة الثالثة - والأخيرة - هي التي توجبها المصلحة الزمنية ولكن لم تكن الوسيلة أولًا قائمة في عهد الرسول ، ووُجِد المقتضي للأخذ بها ، ولا أوجب الأخذ بها تقصير المسلمين في بعض الأحكام الشرعية ؛ هذه الوسيلة هي التي تدخل في باب المصالح المرسلة .

فإذًا المصلحة المرسلة تلتقي تارةً مع البدعة الضلالة وتارةً تنفصل عنها ، تلتقي مع البدعة الضلالة في الصورتين الأوليين ، وتختلف عنها في الصورة الثالثة ، وجماع الأمر في التفريق بين المصلحة المرسلة وبين البدعة الضلالة أنَّ المصلحة المرسلة إنما يُؤخذ بها لتحقيق مصلحة جماعية للأمة ، ولا يُقصد بها زيادة التقرُّب إلى الله ؛ بينما البدعة الضلالة إنما يأخذ بها عامة الناس دائمًا وأبدًا من باب زيادة التقرُّب إلى الله - تبارك وتعالى - ، وهذا الباب قد سدَّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببيانه للآية الكريمة : (( اليوم أكملت لكم )) ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ما تركت شيئًا يُقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتكم به ، وما تركت شيئًا يُبعِّدكم عن الله ويُقرِّبكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه ) ؛ لذلك جاءت الآثار عن سلفنا الصالح تترى في الأمر باتباع السنة والنهي عن الابتداع في الدين ، من ذلك قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : " اقتصادٌ في سنَّة خيرٌ من اجتهاد في بدعة " .

هذا ما يحضرني الآن من الكلام حول المصلحة المرسلة .

نعم .
  • فتاوى جدة - شريط : 20
  • توقيت الفهرسة : 00:33:28
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة